فصل: قال الصابوني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الصابوني في الآيات السابقة:

{يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم}
سورة الطلاق:
[1] أحكام الطلاق:

.التحليل اللفظي:

{لعدتهن}: أي لزمان عدتهن، أو لاستقبال عدتهن. قال الجرجاني: اللام بمعنى (في) أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن، وعدة المرأة أيام قروئها، وأيام إحدادها على بعلها، وأصل ذلك كله من العد لأنها تعد أيام أقرائها، أو أيام حمل الجنين، أو أربعة أشهر وعشر ليال.
{وأحصوا}: أي اضبطوا، واحفظوا، وأكملوا العدة ثلاثة قروء كوامل. وأصل معنى الإحصاء: العد بالحصى كما كان معتادا قديما، ثم صار حقيقة فيما ذكر.
{اتقوا الله}: أي اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية تحميكم وتصونكم، وذلك بالطاعة في الأوامر، واجتناب النواهي.
{بفاحشة}: الفاحشة، والفحش، والفحشاء: القبيح من القول والفعل، وجمعها فواحش، وكل ما اشتد قبحه من الذنوب والمعاصي يسمى (فاحشة) ولهذا يسمى الزنى فاحشة قال تعالى: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} [الإسراء: 32].
{حدود الله}: الحدود هي الموانع عن المجاوزة نحو النواهي، والحد في الحقيقة هو النهاية التي ينتهي إليها الشيء، وحدود الله ضربان: ضرب حدها للناس في مطاعمهم ومشاربهم مما أحل وحرم، والضرب الثاني عقوبات جعلت لمن ركب ما نهي عنه كحد السارق.
{ظلم نفسه}: الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13].
{أجلهن}: الأجل غاية الوقت ومدته. والمراد في الآية أي قاربن انقضاء أجل العدة.
{بمعروف}: المعروف ما يستحسن من الأفعال، وأصل المعروف ضد المنكر. والمعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع، ونهى عنه من المحسنات والمقبحات.
والمعروف في الإمساك النصفة وحسن العشرة والصحبة فيما للزوجة على زوجها، وفي المفارقة أداء المهر والتمتيع، والحقوق الواجبة والوفاء بالشرط.
{ذوى عدل}: أي رجلين بينا العدالة، والعدل: المرضي قوله وحكمه.
قال الحسن: ذوي عدل من المسلمين.
{يتوكل}: يستسلم ويعتمد في أموره على الله، لعلمه أن الله كافل رزقه وأمره فيركن إليه وحده، ويصرف أمره إليه.
{حسبه}: أي كافيه. ومنه قول المؤمن (حسبي الله ونعم الوكيل).
{بالغ}: أي نافذ أمره والمعنى سيبلغ الله أمره فيما يريد منكم.
{قدرا}: أي تقديرا وتوقيتا، وهو بيان لوجوب التوكل عليه تعالى وتفويض الأمر إليه، لأن العبد إذا علم أن كل شيء من الرزق وغيره لا يكون إلا بتقديره تعالى، لا يبقى له إلا التسليم للقدر، والتوكل على الله تعالى.

.المعنى الإجمالي:

يخاطب الله سبحانه نبيه المختار صلى الله عليه وسلم قائد الأمة إلى الخير، وهاديها إلى الحق، تشريفا له وتعظيما، وتنبيها لأمته وتعليا، بأن المسلم إذا أراد أن يطلق زوجه فله ذلك. ولكن عليه أن يراعي في ذلك الوقت الذي يطلقها فيه، فلايطلقها إلا في طهر لم يجامعها فيه، فإن فعل ذلك فعليه أن يحصي الوقت، ويضبط أيام العدة ليعرف وتعرف انتهاء عدتها وانفصام عرى الزوجية بينهما، وعلى المؤمن أن يكون مصاحبا لتقوى الله وخشيته في كل عمل يؤديه، وأمر يقوم به ليكون عمله صحيحا سليما.
المعتدة تقعد في منزل زوجها لا يجوز له أن يخرجها، ولا يجوز لها أن تخرج، ولو أذن لها زوجها بذلك إلا إذا ارتكبت فاحشة محققة تعذر معها البقاء في منزل زوجها فتخرج لذلك، هذا أمر الله وحكمه، وحده الفاصل الذي أقامه لطاعته فمن تعداه، فقد ارتكب ما نهاه الله عنه، وجلب الشر والندم لنفسه، فإنه لا يدري لعل الله يحدث في قلبه ما يغير حاله، ويجعله راغبا في زوجه، مريدا إبقاءها في بيته، فإذا تمهل في أمر الطلاق، واتبع ما أرشده إليه الكتاب الكريم كان له سعة فيما يريد، وإلا ندم، ولات ساعة مندم.
وإذا شارفت المعتدة على نهاية عدتها فالخيار للزوج، والأمر إليه، إذا أراد أن يعيدها إلى منزله فعليه أن يعاملها برفق ولين، وإن أراد أن يفارقها فله ذلك مع توفية جميع حقوقها، وسواء اختار المفارقة أو الإمساك فعليه أن يشهد على ذلك رجلين عدلين في دينهما، وخلقهما، واستقامتهما.
وعلى الشهود أن يؤدوا الشهادة لوجه الله تعالى، ولا يكتموها، أمر من عند الله يتبعه المؤمن ويخبت له، ويعلم أن أمامه يوما يسأل فيه عما قدم وأخر.
وتقوى الله- سبحانه- تجعل للعبد مخرجا من المضايق مادية كانت أو معنوية، ويرزق الله- القدير- عبده التقي من حيث لا يؤمل، ولا يتوهم، ومن يرجع إلى الله في أموره، ويتوكل عليه حق التوكل، فالله كافيه همه، وميسر عليه أمره، وأمر الله وحكمه في الخلائق نافذ لا محالة، يفعل ما يشاء ويختار، ولكن لكل أجل كتاب، ولكل أمر وقت محدد.

.وجوه القراءات:

{مبينة}: قرأ الجمهور بالكسر، وقرأ ابن كثير وأبو بكر {مبينة} بالفتح.
قوله تعالى: {أجلهن}: قرأ الجمهور {أجلهن} على الإفراد.
وقرأ الضحاك وابن سيرين {آجالهن} على الجمع.
قوله تعالى: {بالغ أمره}: قرأ الجمهور بالتنوين {بالغ}.
وروي عن حفص {بالغ أمره} بالإضافة.
وروي {بالغ أمره}.
وروي {بالغا أمره}.

.وجوه الإعراب:

1- قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} هو على حذف مضاف أي لاستقبال عدتهم.
واللام للتوقيت نحو كتبته لليلة بقيت من شهر رجب.
2- قوله تعالى: {لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا}.
نصب {لا تدري} على جملة الترجي، فلا تدري معلقة عن العمل، والجملة المترجاة في موضع نصب بـ: {لا تدري}.
3- قوله تعالى: {بالغ أمره}.
من قرأ بالتنوين فعلى الأصل، لأن اسم الفاعل هاهنا بمعنى الاستقبال و{أمره} منصوب باسم الفاعل {بالغ} لأن اسم الفاعل يعمل عمل الفعل.
ومن قرأ بغير تنوين، حذف التنوين للتخفيف، وجر ما بعده بالإضافة.
ومن قرأ {أمره} بالرفع على أنه فاعل ل {بالغ} التي هي خبر إن.
أو مبتدأ و{بالغ} خبر مقدم له، والجملة خبر {إن}.
ومن قرأ {بالغا} على أنها حال من فاعل {جعل} لا من المبتدأ لأنهم لا يرتضون مجيء الحال منه و{قد جعل...} خبر {إن}.

.سبب النزول:

أولا: روي في (سنن) ابن ماجه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها».
وروى قتادة: عن أنس قال:«طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة رضي الله عنها فأتت أهلها فأنزل الله تعالى عليه {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} وقيل له راجعها فإنها قوامة صوامة، وهي من أزواجك في الجنة».
وقال الكلبي: سبب نزول هذه الآية غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفصة لما أسر إليها حديثا، فأظهرته لعائشة، فطلقها تطليقة فنزلت الآية.
ثانيا: وقال السدي: نزلت في عبد الله بن عمر طلق امرأته حائضا تطليقة واحدة، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر، وتحيض، ثم تطهر، فإذا أراد أن يطلقها، فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى:
قوله تعالى: {يا أيها النبي} نداء للنبي صلى الله عليه وسلم وخطاب له على سبيل التكريم والتنبيه.
ويحتمل تخصيص النبي بالخطاب وجوها:
أحدها: اكتفاء بعلم المخاطبين بأن ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم خطاب لهم إذ كانوا مأمورين بالاقتداء به، إلا ما خص به دونهم.
والثاني: أن تقديره: يا أيها النبي قل لأمتك {إذا طلقتم النساء...}.
والثالث: خص النداء به صلى الله عليه وسلم على العادة في خطاب الرئيس الذي يدخل فيه الأتباع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إمام أمته، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت إظهارا لتقدمه واعتبارا لترؤسه. وفيه إظهار لجلالة منصبه عليه الصلاة والسلام ما فيه، ولذلك اختير لفظ {النبي} لما فيه من الدلالة على علو مرتبته.
والرابع: الخطاب كالنداء له صلى الله عليه وسلم إلا انه اختير ضمير الجمع للتعظيم نظير ما في قوله:
ألا فارحموني يا إله محمد

والخامس: إنه بعد ما خاطبه عليه الصلاة والسلام بالنداء صرف سبحانه الخطاب عنه لأمته تكريما له صلى الله عليه وسلم لا في الطلاق من الكراهة فلم يخاطب به تعظيما.
والسادس: حذف نداء الأمة، والتقدير يا أيها النبي وأمة النبي إذا طلقتم.
قال القرطبي: إذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقوله: {يا أيها النبي} فإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعا له قال: {يا أيها الرسول}.
اللطيفة الثانية:
فإن قيل: ما السر في تسمية الطلاق بـ: (الطلاق البدعي)، أو (الطلاق السني)؟
فالجواب كما قال الإمام الرازي: إنما سمي بدعة لأنها إذا كانت حائضا لم تعتد بأيام حيضها من عدتها بل تزيد على ثلاثة أقراء، فتطول العدة عليها حتى تصير كأنها أربعة أقراء، وهي في الحيض الذي طلقت فيه في صورة المعلقة التي لا هي معتدة، ولا ذات بعل، والعقول تستقبح الإضرار.
ففي طلاقة إياها في الحيض سوء نظر للمرأة، وفي الطلاق في الطهر الذي جامعها فيه، وقد حملت فيه سوء نظر للزوج.
فإذا طلقت وهي طاهر غير مجامعة أمن هذان الأمران، لأنها تعتد عقيب طلاقه إياها، على أمان من اشتمالها على ولد منه.
اللطيفة الثالثة:
قال الربيع بن خثيم: (إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له).
وتصديق ذلك في كتاب الله {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} [التغابن: 11] {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} {إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه} [التغابن: 17] {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم} [آل عمران: 101] {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} [البقرة: 186].
اللطيفة الرابعة:
قال الله تعالى: {واتقوا الله ربكم} ولم يقل (واتقوا الله).
قال الفخر الرازي: فيه من المبالغة ما ليس في ذلك، فإن لفظ الرب ينبههم على التربية التي هي الإنعام والإكرام بوجوه متعددة غاية التعداد فيبالغون في التقوى حينئذ خوفا من فوت تلك التربية.
اللطيفة الخامسة:
قال الرازي: ثم في هذه الآية لطيفة، وهي أن التقوى في رعاية أحوال النساء مفتقرة إلى المال، فقال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} وقريب من هذا قوله تعالى: {إن يكونوا فُقراء يغنهم الله من فضله} [النور: 32]
اللطيفة السادسة:
قوله تعالى: {وأحصوا العدة} إحصاء العدة يكون لمعان:
أحدها: لما يريد من رجعة وإمساك، أو تسريح وفراق.
والثاني: لكي يشهد على فراقها، ويتزوج من النساء غيرها ممن لم يكن يجوز له جمعها إليها كأختها، أو أربع سواها.
والثالث: لتوزيع الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثا.
اللطيفة السابعة:
قوله تعالى: {لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا}، أي من الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها. والمقصود التحريض على طلاق الواحدة، والنهي عن طلاق الثلاث، فإنه إذا طلق ثلاثا أضر بنفسه عند الندم على الفراق، والرغبة في الارتجاع، فلا يجد للرجعة سبيلا.